Halloween party ideas 2015

لو كان هناك أناس يولدون في الجنة، ثم يشيبون في رحابها ويكبرون.. ثم يجاء بهم الى الرض ليوكون زينة لها، ونورا، لكان عمّار، وأمه سميّة، وأبوه ياسر من هؤلاء..!! ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا مفترض هذا الاتراض، وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟ وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال: " صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة".. بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه..

خرج ياسر والد عمّار، من بلده في اليمن يطلب أخا له، ويبحث عنه.. وفي مكة طاب له المقام، فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة.. وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه سميّة بنت خياط.. ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا.. وكان اسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله.. وشأن الأبرار المبكّرين أيضا، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!! ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر.. فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة، تولوهم بالوعيد والتهديد، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك، ولنضعنّ شرفك، ولنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية. وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها، أو عبيدها، أصلتهم سعيرا. ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق.. ووكل أمر تعذيبهم الى بني مخزوم، يخرجون بهم جميعا.. ياسر، سمية وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة، ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!! ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا ان شاء الله مع جلال تضحيتها، وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات.. وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول الى آخرها شرفا لا ينفد، وكرامة لا ينصل بهاؤها..! موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!

كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون.. ولم يكن ىنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا.. وكانت تلك مشيئة الله.. فالدين الجديد، ملة ابراهيم حنيفا، الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة اصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكا بطولاته، وتضحياته ومخاطراته... ان هذه التضحيات النبيلة الهائلة، هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول، وخلودا لا يبلى..!!! انها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء، وغبطة وحبورا. وانها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة الى حقيقة الدين، وصدقه وعظمته.. وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للاسلام تضحياته وضحاياه، ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية... فهو يقول: (أحسب الناس أن يتركوا، أن يقولوا آمنّا، وهم لا يفتنون)؟! (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)؟ (ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا، وليعلمنّ الكاذبين). (أم حسبتم أن تتركوا، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم..) (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب).. (وما أصابكم يوم التقى الجمعان، فباذن الله، وليعلم المؤمنين). أجل هكذا علم القرآن حملته وأبناءه، أن التضحية جوهر الايمان، وأن مقاومة التحديّات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالاصرار.. انما تشكّل أبهى فضائل الايمان وأروعها.. ومن ثمّ فان دين الله هذا وهو يضع قواعده، ويرسي دعائمه، ويعطي مثله، لا بد له أن يدعم وجوده بالتضحية، ويزكّي نفسه بالفداء، مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون قدوة سامقة ومثلا عاليا للمؤمنين القادمين. ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اهتارتها مقادير الاسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها واصراراها وثيقة عظمته وخلوده..

قلنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر، محيّيا صمودها، وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوبرحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به. وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار: " يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ".. فنا داه الرسول: صبرا أبا اليقظان.. صبرا آل ياسر.. فان موعدكم الجنة".. ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة. فيقول عمرو بن الحكم: " كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول". ويقول عمرو بن ميمون: " أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار، كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم".. على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح عمار، وان فدح ظهره ودغدغ قواه.. ولم يشعر عمار بالهلاك حقا، الا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي بالنار، الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه، وتتسلخ قروحه وجروحه.. في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير، وأخذوا يقولون له، وهو يردد وراءهم القول في غير شعور. في لك اليوم، وبعد أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه، تذكّر ما قاله فطار صوابه، وتجسمت هذه الهفوة أما نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات، أوقع به الشعور بالاثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!! ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة.. لقد كان يحتمل الهول المنصّب على جسده، لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك.. لكن الله العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه.. وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا، وهاتفا به: انهض أيها البطا.. لا تثريب عليك ولا حرج.. ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي، فجعل يمسح دموعه بيده، ويقول له: " أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا.. وكذا..؟؟" أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله... فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم:" ان عادوا، فقل لهم مثل قولك هذا"..!! ثم تلا عليه الآية الكريمة: ( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان).. واستردّ عمّار سكينة نفسه، ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما، ولم يعد يلقي له وبالا.. لقد ربح روحه، وربح ايمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة، فليكن بعدئذ ما يكون..!! وصمد عمّار حتى حل الاعياء بجلاديه، وارتدّوا أمام اصراره صاغرين..!!

استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها، وأخذ المجتمع الاسلامي هناك يتشكّل سريعا، ويستكمل نفسه.. ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ عمار مكانه عليّا..!! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا حمّا، ويباهي أصحابه بايمانه وهديه.. يقول عنه صلى الله عليه وسلم/ : ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه". وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد، قال رسول الله:" من عادى عمارا، عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله" ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الاسلام الا أن يسارع الى عمار معتذرا اليه، وطامعا في صفحه الجميل..!! وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها، ارتجز الامام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه، فيقولون: لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " ما لهم ولعمّار..؟ يدعوهم الى الجنة، ويدعونه الى النار.. ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"... واذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد، فلا بد أن يكون ايمانه، وبلاؤه، وولاؤه، وعظمة نفسه، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى، وانتهت الى ذروة الكمال الميسور..!! وكذلكم كان عمار.. لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى، وبلف في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي ايمانه، ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار".. ولقد وصفه الرواة فقالوا: " كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا، وأقلهم كلاما".. فكيف سارت حياة هذا العملاق، الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟! كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟؟ لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا، وأحدا، والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعل. ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه.. ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرّراة كان عمّار هناكفي الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا، لا تأخذه عن الله رغبة.. وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يخ\تار مصيره، كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر".. وهكذا سارع اليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال.. وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال: " اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا.. وانهما من النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر".. ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا.. لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا.. يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة: " رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها الى داره"..!! ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:" يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه: " خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!! أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة، وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. اذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب، ويهدي اليه المنايا والدمار.. واذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة. يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: " رايت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر، هلموا اليّ.. فنظرت اليه، فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشد القتال"..!!! ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق، والمعلم الكامل، فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومعلم عظيم؟؟ اذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!! واذا كانوا خلفاء وحكّاما، ذهب الخليفة يحلب شياه الأيامى، ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!! واذا كانوا ولاة حملوا طعامم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل، كما صنع سلمان..!! ألا فلنحن الجباه تحيّة واجلالا للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول، الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله.. وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!

كان الحذيفة بن اليمان، الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء الله، ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له" بمن تأمرنا، اذا اختلف الناس"..؟ فأجابهم حذيفة، وهو يلقي بآخر كلماته: " عليكم بابن سميّة.. فانه لن يفارق الحق حتى يمةت".. أجل ان عمارا ليدور مع الحق حيث يدور.. والآن نحن نقفو آثاره المباركة، ونتتبع معالم حياته العظيمة، تعلوْا نقترب من مشهد عظيم.. ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله، في صولته وكماله، في تفانيه واصراره، في تفوقه واقتداره، تعالْوا نبصر مشهد مشهدا يسبق هذا المشهد، ويتنبأ به، ويهيئ له... كان ذلك اثر استقرار المسلمين في المدينة، وقد نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار، شعثا لربهم وغبرا، بنون بيته، ويقيمون مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة، وتألقت بشرا، وابتهلت حمدا لربها وشكرا.. الجميع يعملون في خبور وأمل.. يحملون الحجارة، أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء.. فوج هنا وفوج هناك.. والأفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل هكذا يغنون وينشدون.. ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى: اللهم ان العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة وتغريدة ثالثة: لا يستوب من يعمّر مسجدا يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى الغبار عنه حائدا انها خلايا لله تعمل.. انهم جنوده، يحملون لواءه، ويرفعون بناءه.. ورسوله الطيّب الأمين معهم، يحمل من الحجارة أعتاها، ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبتة.. والسماء من فوقهم تغبط الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!! وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها... ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول الله، فيأخذه اليه حنان عظيم، ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسى رأسه، ويتأمّل وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله، ثم يقول على ملأ من أصحابه جميعا: " ويح ابن سميّة..!! تقتله الفئة الباغية"... وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته، فيظن بعض اخوانه أنه قد مات، فيذهب ينعاه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفزّع الأصحاب من وقع النبأ.. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة: " ما مات عمّار تقتله الفئة الباغية".. فمن تكون هذه الفئة يا ترى..؟؟ ومتى..؟ وأي..؟ لقد أصغى عمّار للنبوءة اصغاء من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم.. ولكنه لم يروّع.. فهو منذ أسلم، وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار... ومضت الأيام.. والأعوام.. ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به الى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما الى رضوان الله عمر.. وولي الخلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. وكانت المؤمرات ضدّ الاسلام تعمل عملها االمستميت، وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في الحرب.. وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر الاسلام ملكها وعروشها.. وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها، فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الاسلام.. ولعل عثمان رضي الله عنه، لم يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر، فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله عنه، وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم الله وجهه حقه في الأمر، وفي الخلافة... وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم من نفض يديه من الخلاف وأوى الى بيتهخ، جاعلا شعاره كلمة ابن عمر: " من قال حيّ على الصلاة أجبته... ومن قال حيّ على الفلاح أجبته.. ومن قال حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلات: لا؟.. ومنهم من انحاز الى معاوية.. ومنهم من وقف الى جوار عليّ صاحب البيعة، وخليفة المسلمين.. ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟ أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " واهتدوا بهدي عمّار"..؟ أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عادى عمّارا عاداه الله"..؟ والذي كان اذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال: " مرحبا بالطيّب المقدام، ائذنوا له"..!! لقد وقف الى جوار عليّ ابن أبي طالب، لا متحيّزا ولا متعصبا، بل مذعنا للحق، وحافظا للعهد.. فعليّ خليفة المسلمين، وصاحب البيعة بالامامة.. ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير.. وعليّ قبل هذا وبعد هذا، صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى.. ان عمارا الذي يدور مع الحق حيث دار، ليهتدي بنور بصيرته واخلاصه الى صاحب الحق الأوحد في النزاع.. ولم يكن صاحب الحق يومئذ في يقينه سوى عليّ، فأخذ مكانه الى جواره.. وفرح علي رضي الله عنه بنصرته فرحا لعله لم يفرح يمئذ مثله وازداد ايمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل عليه وسار معه.. وجاء يوم صفين الرهيب. وخرج الامام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه. وخرج معه عمار.. كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلاثة وتسعين.. ثلاث وتسعون عاما ويخرج للقتال..؟ أجل ما دام يتعقد أن القتال مسؤليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين...!! كان الرجل الدائم الصمت، القليل الكلام، لا يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما الا بهذه الضراعة: " عائذ بالله من فتنة... عائذ بالله من فتنة..". وبعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم.. وكلما كانت الأيام تمر، كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه.. كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه.. وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة، كان ابن سميّة. يعرف مكانه فوقف يوم صفين حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته.. ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلا: " ايها الناس: سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان، ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره، ولكنهم ذاقوا الدنيا، واستمرءوها، وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم.. وما كان لهؤلاء سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم، ولا الولاية عليهم، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق... وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون الا أن يكونوا جبابرة وملوكا؟... ثم أخذ الراية بيده، ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة، وصاح في الناس قائلا: " والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهأنذا أقاتل بها اليوم.. والذي نفسي بيده. لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر، لعلمت أننا على الحق، وأنهم على الباطل".. ولقد تبع الناس عمارا، وآمنوا بصدق كلماته.. يقول أبو عبدالرحمن السلمي: " شهدنا مع عليّ رضي الله عنه صفين، فرأيت عمار ابن ياسر رضي اله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها، ولا واد من أوديتها، الا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"..!! كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول، يؤمن أنه واحد من شهدائها.. وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبرة: " تقتل عمّار الفئة الباغية".. من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة: "اليوم القى الأحبة محمدا وصحبه"..!! ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله الأمويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما: لقد ضربناكم على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام عن مقليه ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق الى سبيله وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين، وعمارا منهم قاتلوا الأمويين بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك، ويقود جيوش المشركين.. قاتلوهم بالأمس، وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون.. أما اليوم، وان يكونوا قد أسلموا، وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم، الا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحق، وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب الى ذويه، وحتى تنصفئ الى البد نار التمرّد والفتنة.. ويعني كذلك، أنهم بالأمس قاتلوا الأمويين لكفرهم بالدين والقرآن.. واليوم يقاتلون الأمويين لانحرافهم بالدين، وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره، ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!! كان ابن الثالثة والتسعين، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق، ويترك لها آخر مواقفه العظيمة، الشريفة المعلمة.. ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا، حتى لا تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية.. بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد، أفقدتهم صوابهم، فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لاصابته، حتى اذا تمكّنوا منه أصابوه...

كان جيش معاويبة ينتظم من كثيرين من المسلمين الجدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الاسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها الاسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة، والامام، كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعالا.. وهذا الخلاف على خطورته، كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الاسلام، وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما.. شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعا ذات يوم بعيد، وهم يبنون المسجد بالمدينة.. " ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباعغية". وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. انها الفئة التي قتلت عمّارا.. وما قتله الا فئة معاوية.. وازداد أصحاب عليّ بهذا ايمانا.. أما فريق معاوية، فقد بدأ الشك يغز قلوبهم، وتهيأ بعضهم للتمرد، والانضمام الى عليّ.. ولم يكد معاوية يسمع بما حدث. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقا بأن عمّارا ستقتله الفئة الباغية.. ولكن من الذي قتل عمّارا...؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائلا: " انما قتله الذين خرجوا به من داره، وجاؤا به الى القتال".. وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك، واستأنفت المعركة سيرها الى ميقاتها المعلوم...

أمّا عمّار، فقد حمله الامام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه.. أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل، وقدّيس عظيم من طراز عمّار... ووقف المسلمون على قبره يعجبون.. منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه، وهو يصيح: " اليوم ألقى الأحبة، محمدا وصحبة"..!! أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقات ينتظره...؟؟!! وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون... قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال: " اشتاقت الجنة لعمّار"..؟؟ قال له صاحبه نعم، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال.. اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار.. واذن، فقد طال شوقها اليه، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته، وينجز آخر واجباته.. ولقد أدّاها في ذمّة، وأنجزها في غبطة.. أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟ بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان الا الاحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى.. وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمّار...!


انهزم ملك المسلمين في معركة فأقسم ألا يقرب النساء ولا يغير ملابسه ولا يضحك ولا يأكل أي طيب من الطعام ولا يداعب أولاده ولا يشم زهرة حتى ترفع راية المسلمين مرة أخرى ..........
.
في عام 572هــ قام الملك المسلم الهندي شهاب الدين الغوري بفتح مدينة مولتان ثم لاهور وكانت مولتان يحكمها القرامطة وفتح الكثير من البلاد الاخرى الكثيرة جدا ونشر الإسلام فيها ثم سار إلى قلعة "بتهنده" وكانت تحت يد ملك "أجمير" واستولى عليها .
وإزاء الخطر الذي بدا من شهاب الدين وانتصاراته في الهند تجمع على أثرها بعض الملوك الهندوس وعلى رأسهم راجابتهورا ، وحشدوا جيوشهم لمقابلته صفا واحدا ، والتقى الجمعان سنة 587هــ 1191م على نهر "سرستي" على بعد ثمانية أميال من دلهي .

في موضع مشهور الآن باسم "تراورى" وكان القتال حارا دارت فيه الدائرة على المسلمين ، فانهزموا أمام الكثرة الهندوسية وسقط شهاب الدين جريحا حتى ظن أنه قتل ، وحمله بعض رجاله من ميدان المعركة حتى بلغوا مأمنه .

وكان أول ما فعله بعد ذلك أن أخذ أمراء الغورية الذين انهزموا في المعركة بسبب جبن البعض منهم وتخاذل البعض وخيانة البعض فقام بملء مخالي خيلهم شعيرا وحلف لئن لم يأكلوه مثل ما أكلت الخيل ليضربن أعناقهم فأكلوه رعبا من القتل .

وقد كان لانهزام شهاب الدين أثر شديد على نفسه ، حتى أنه أقسم ألا يقرب النساء ولا يغير ملابسه ولا يضحك ولا يأكل أي طيب من الطعام ولا يداعب أولاده ولا يشم زهرة حتى ترفع راية المسلمين مرة أخرى بعد هذه الهزيمة المهينة وحتى يغسل ما لحق به من عار .

وفي سنة 588هـ - 1192م كون جيشا عظيما وسار به إلى الهند ، وقام برسم خطة يجر بها جيش الهندوس لنفس الموقع الذي انهزم فيه من قبل على نهر "سرستي" لينتقم للمسلمين من الإهانة التي لحقت بهم وأقسم ليرفعن راية لا إله إلا الله في نفس المكان الذي سقطت به من قبل وبعد أن صفف الصفوف نادي في الجند قائلا :
يا جند الله : في هذا المكان وقعت راية المسلمين التي مكتوب عليها لا إله إلا الله على أرض هذا المكان وأنا أقدم حياتي اليوم فداء لتلك الراية وما كتب عليها حتى ألقى ربي ويسألني فيم قتلت : أقول له قتلت يا رب في كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله .

فمن أراد أن يتبعني ويموت شهيدا أو ينتصر ويحيا عزيزا تحت ظل هذه الراية فليتبعني على هذا الميدان ولنرين الله منا ما يفرحه ولنرين العدو منا ما يحزنه والله ينصر الصادقين منا ومن أبى وجبن فليرجع لا لوم عليه ولا عقوبة ثم نصح جنده وذكرهم بالله ورسوله والصحابة والجنة وما بها وأجر الشهيد ومكانته عند الله فتأثر الجند وزادت حماستهم واتبعه الجيش كله لم يتخلف منه واحدا ثم تحرك شهاب الدين متقدما في مواجهة العدو وكان أول من ضرب بسيفه في صفوف عدوه مما اثار حمية وحماسة جنوده وانزل الرعب في جيش الهندوس حيث أن ملكهم لا يتقدم الجنود بل يكون في المؤخرة بعيدا عن القتل ومع ذلك فقد انقض جيش المسلمين عليه واعمل في جيشه القتل حتى انهزم الهندوس وتمكن المسلمون من اسر ملكهم وصعد شهاب الدين إلى الحصن ، وأخذ ما فيه من أموال واستولى على البلاد ثم ضرب عنق الملك في نفس المكان الذي وقعت فيه راية المسلمين في المرة السابقة ثم زرع الراية بجوار جثة ملكهم ليشهدها جيشه وجيش المسلمين ثم جعل ابن الملك المقتول حاكما على بلاده على أن يدفع الجزية ورجع إلى "غزنة" بعد ان أقام مملوكه قطب الدين أيبك نائبا عنه في البلاد التي خضعت له .


قالت عائشة رضي الله عنها عن زواج النبي بجويرية بنت الحارث: لم يكن زواج امرأة أيمن على قومها على زواج جويرية .. فقد أسلم بإسلامها مائتا بيت من بيوت العرب وكان زواجها خيرا وبرا على قومها". ولهذا الزواج قصة:
فقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم .. وكان ذلك في شهر شعبان في السنة الخامسة من الهجرة أن الحارث بن أبي حراز يريد غزو مدينة رسول الله .. وقد كان هذا الرجل وهو سيد قومه بني المصطلق من الذين ساعدوا مكة عندما أرادت أن تنتقم لموتاها يوم بدر في معركة أحد .. ولم ينتظر الرسول حتى يداهم هذا الرجل وقومه المدينة فقرر أن يغزوه في عقر داره..
وعندما التقى الرسول بهذا الرجل ومعه قومه عند مكان يسمى (المريسيع) .. طلب منهم الرسول إعلان إسلامهم فرفضوا ولم يكن هناك مفر من القتال .. وواجه الرسول الحارث ورجاله من خزاعة .. ولكنهم لم يصمدوا إلا قليلا.. ثم سرعان ما حاقت بهم الهزيمة، ففر منهم من فر، ووقع الباقي في الأسر، وكان من بين الأسرى ابنة زعيمهم جويرية بنت الحارث .. وكانت جويرية هذه متزوجة من سافع بن صفوان الذي قتل في هذه المعركة.
وجدت جويرية نفسها أسيرة .. وهي ابنة سيد خزاعة فقد وقعت في سهم ثابت بن قيس .. وهالها أن تصبح جارية وهي التي عاشت حياتهم ترفل في ثياب العز والجاه، فعرضت على ثابت أن يفك أسرها نظير مبلغ من المال، ووافق الرجل على أن يعتقها على أن تدفع له تسع أواق من الذهب.
ولكن أين لها بالمال وهي أسيرة!
توجهت إلي الرسول صلى الله عليه وسلم تحكي له قصتها مع الأسر وتطلب منه أن يتدخل ليخرجها من ذل الأسر، وأن يدفع لها ما تعاهدت عليه مع ثابت قالت للرسول كما تروي عائشة، وكانت مع الرسول في هذه الغزوة: ـ ".. فبينما النبي عندي إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابها، فوالله، ما أن رأتها حتى كرهت دخولها على رسول الله وعرفت أنه سيري منها مثل الذي رأيت.
فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث، سيد قومه، وقد أصابني من الأسر ما قد علمت، فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبني على تسع أواق فأعني في فكاكي.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ أو خير من ذلك؟
فقالت: ما هو؟
فقال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك.
قالت: نعم يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت.
ولما علم الناس بالخبر أطلقوا أسراهم من بني المصطلق إكراما لأصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا كان زواج جويرية خيرا وبركة على قومها الذي أحسوا بعظمة الرسول وإحسانه إليهم .. فدخلوا الإسلام طواعية .. والعجيب أن نساء النبي كانوا يفخرون عليها باعتبارها جارية .. وقعت في الأسر وأعتقها الرسول!
وعندما شكت إلي الرسول ما يفعلنه فيها قال لها:
ـ ألم أعظم صداقك .. ألم اعتق أربعين من قومك..
والرسول يعني أن ما تقوله عنها ضرائرها لا يمت للحقيقة بصلة فهو كلام ضرائر. وكانت هذه السيدة الفاضلة كثيرة العبادة .. كثيرة الخشية من الله وقد توفيت في خلافة معاوية بن أبي سفيان ودفنت في البقيع.



أبوه الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها.


اختلف المؤرخون في تاريخ ولادته، فقيل إنه ولد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورجح ابن كثير في كتابه البداية والنهاية أنه ولد عام 23هـ.


وكان أبوه الزبير رضي الله عنه يرقصه وهو صغير، ويقول له:


أبيض من آل عتيق مبارك من ولد الصديق


ألذه كما ألذ ريقي


كان من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة الذين اتخذهم عمر ابن عبد العزيز مستشاريه فيما يعرض له من أمور، وكان لا يصدر إلا عن رأيهم، كان فقيها عالما حافظا ثبتا حجة، عالما بالسير، ثقة، كثير الحديث مأمونا، وهو أول من ألف في السير والمغازي، وكان من أروى الناس للشعر، أخذ عن عدد من الصحابة وسواهم، ونظرا لصلته الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد أخذ عنها كل علمها، وكانت من أعلم الصحابة، حتى روى أنه قيل: لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج أو خمس حجج، وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولأجل هذه الصلة الوثيقة بعائشة واستفادته منها قال قبيصة بين ذؤيب أحد فقهاء المدينة: كان عروة يغلبنا بدخوله على عائشة، وكانت عائشة أعلم الناس.


الإشادة بعلم عروة


كان علم عروة الزاخر قد لفت انتباه كل من خالطه، والتقى به، وبخاصة من أبناء الأمويين والمروانيين، فقد روي عنه عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما أعلم من عروة، وما أعلمه يعلم شيئا أجهله، وهذا عبد الملك بن مروان، وقد كان يجمعه هو عروة الجد في طلب العلم بالمدينة لما كان شابا، فما آلت إليه الخلافة، قصده الناس من هنا ومن هناك، وكان ابن شهاب الزهري في وفد من أهل المدينة قدموا عليه في دمشق،وكان أحدثهم سنا، ولفتت حداثة سن الزهري نظر عبد الملك، فسأله: من أنت؟


فلما انتسب إليه، قال له: لقد كان أبوك وعمك نعاقين في فتنة ابن الزبير، فقال الزهري: يا أمير المؤمنين، إن مثلك إذا عفا لم يعد، وإذا صفح لم يثرب، فأعجب عبد الملك منطق الزهري على حداثة سنه، فقال له: أين نشأت؟ فأجاب الزهري: بالمدينة.


سأل عبد الملك: عند من طبت (يعني العلم).


فأجاب: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وقبيصة ابن ذؤيب ومع أنهم من جلة العلماء، فإن عبد الملك وجه الزهري قائلا: فأين أنت من عروة بن الزبير، فإنه بحر لا تكدره الدلاء.


قال الزهري فلما انصرفت من عنده، لم أبارح عروة بن الزبير حتى مات وكأنما كان عبد الملك يتذكر أيام شبابه، وهم لا زالوا بعد في مقتبل العمر، وقد جلسوا أربعة أو خمسة حسب روايات كتب الأخبار، عبد الملك، وعبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعروة بن الزبير، وتقول بعض الروايات إن عبد الله بن عمر كان معهم، وقد اجتمعوا في المسجد الحرام، وكان ذلك في عهد معاوية، فقال بعضهم: هلم فلنتمنه، فقال عبد الله بن الزبير منيتي أن أملك الحرمين، وأنال الخلافة، وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين وأجمع بين عقيلتي قريش: سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وقال عبد الملك: منيتي أن أملك الأرض كلها، وأخلف معاوية فقال عروة: لست في شيء مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، وأن أكون ممن يروي عنه هذا العلم.


وكأنما كانت أبواب السماء مفتوحة فاستجابت لهذه الأمنيات في ساحة الحرم، وكأنما ظل عبد الملك يتذكر ذلك المجلس، كلما طاف به طائف من ذكريات الشباب، وكان يرى كلا منهم إلا عروة كان معلق القلب بالسماء، فلم يتمن شيئا من عرض هذه الدنيا وبهجتها، وإنما تمنى الزهد فيها، والفوز بالجنة، وأن تكون أيامه فيها وقفا على نشر العلم بين الناس، وتفجير ينابيعه في قلوبهم، ولذلك كان عبد الملك يقول: من سره أن ينظر إلي رجل من أهل الجنة فلينظر إلي عروة بن الزبير وليست هذه هي النصيحة الوحيدة التي وجهت إلي الزهري ليستفيد من علم عروة، بل هناك نصيحة أخرى جاءت من مصر كما جاءت الأولى من دمشق، قال الزهري: قدمت مصر على عبد العزيز بن مروان، وأنا أحدث عن سعيد بن المسيب، فقال لي إبراهيم بن عبد الله بن قارظ: ما أسمعك تحدث إلا عن ابن المسيب؟ فقلت: أجل، فقال: لقد تركت رجلين من قومك، لا أعلم أحدا أكثر حديثا منهما عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.


قال الزهري: فلما رجعت إلي المدينة، وجدت عروة بحرا لا تكدره الدلاء.


وقد أثر عن الزهري: بعد ذلك وهو أعلم التابعين، قوله: كنت أطلب العلم من ثلاثة: سعيد بن المسيب، وكان أفقه الناس، وعروة بن الزبير، وكان بحرا لا تكدره الدلاء، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، وكنت لا أشاء أن أقع منه على علم ما لا أجد عند غيره إلا وقعت، وكذلك قوله: "أدركت من بحور وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، فأما سلمة بن عبد الرحمن فكان يمارى ابن عباس فجرب بذلك علما كثيرا".


وكان أبو بكر بن عبد الرحمن يرى عروة بن الزبير، وعمر ابن عبد العزيز من الذين اكتملت فيهم الصفات التي تؤهلهم للعلم، فيقول: "إنما هذا العلم لواحد من ثلاثة: لذي نسب يزين به نسبه، أو لذي دين يزين به دينه، أو مختلط بسلطان ينتجعه به، ولا أعلم أحدا أجمع لهذه الخلال من عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، كلاهما ذو حسب، ودين، ومن السلطان بمكان" ...


وليس غريبا على عروة أن يبلغ هذه المنزلة من العلم، فقد كان جده في تحصيل العلم لا يعرف الكلل، فقد روي عنه أنه كان يقول: لقد كان يبلغني عن الرجل من المهاجرين الحديث، فآتيه، فأجده قد قال: ـ استراح وقت القيلولة ـ فأجلس على بابه، فأسأله عنه إذا خرج.


وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ـ وهو من أقرانه ـ يأخذ عنه الحديث، ولا يخفي سروره بما يأخذ عنه، فقد أتى ذات ليلة إلي عروة، فجل عروة يحدثه، وجعل عبيد الله يضحك، فظن عروة إنما ذلك من عبيد الله استهزاء، فقال له: ما يضحكك؟



فقال: إنك تحدثني عن عائشة، وتحملني على الملأ، وإن غيرك يحيلنا على الفاليس.


اهتمامه بنشر العلم


كان عروة حريصا على بث العلم ونشره حتى إذا كان يستحث غيره على سؤاله والاستزادة من المعرفة مما عنده فقد روي أنه كان يتألف الناس على حديثه، وكان يستحث أولاده على سؤاله، فيقول: يا بني، سلوني، فلقد تركت حتى كدت أن أنسى، وإني لأسال عن الحديث فيفتح حديث يومي، وكان يقول لأولاده: إنا كنا أصاغر قوم، ثم نحن اليوم كبار، وإنكم اليوم أصاغر، وستكونون كبارا، فتعلموا العلم تسودوا به، ويحتاج إليكم، فوالله ما سألني الناس حتى نسيت.


وكانت له كتب فقه سجل فيها ما عنده من المعرفة والعلم، ثم بدأ له، فمحاها اكتفاء بكتاب الله، ثم لما تقدمت به السن تمنى أن هذه الكتب كانت قد بقيت، وفي ذلك يروي عنه أبو الزناد قوله: "فوالله لوددت أن كتبي عندي، وأن كتاب الله قد استمرت مريرته (قوى واستحكم)، وهناك رواية عن ابنه هشام تقول: إن أباه كان حرق كتبا فيها فقه، ثم قال: لوددت أني كنت فديتها بأهلي ومالي".


ولهذه الثقة فيما عند عروة من علم كان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون عنه، فقد روي عن عبد الرحمن بن عوف قال: لقد رأيت الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنهم ليسألونه عن قصة ذكرها.


مظهره
كان عروة حسن الهيئة، أنيق المظهر، وسيم الطلعة، وكانت هذه سمة العلية من أبناء قريش، ومن مظهر هذه الوسامة أنه كان لا يحف شاربه، وإنما يأخذ منه مأخذا حسنا، وكذلك كان ابن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وكان شديد العناية بنظافته، فكان يغتسل كل يوم، ويلبس الثياب المعصفرة.ص77.


وقال ابنه هشام: إنه كان يعصفر له الملحفة بالدينار، وكان آخر ثوب لبسه ثوب عصفور له بدينار، وكان يلبس كساء خز، ويلبس الطيلسان المزرر بالديباج فيه، وهو محرم، ولا يزره عليه، وكان يصلي في قميص وملحفة مشتملا بها على القميص، وكان يلبس في الحر قباء سندس مبطنا بحرير، وكان يخضب قريبا من السواد.


وهذه كلها مظاهر تدل على أنه كان في الحال من النعمة والثراء.


علمه بالسير والمغازى


كان عروة واسع المعرفة، محيطا بالسير والمغازى،حتى إنه أول من ألف في هذا الفن، إلا أن ما كتبه في فن المغازى والسير لم يصل إلينا. ويبدو أنه من بين الكتب التي أحرقها، ثم ندم عليها فيما بعد، وكان قادة عصره يعرفون عنه إلمامه بالسير والمغازى، فكانوا يبعثون إليه من وقت لآخر يسألونه عن أمر من الأمور التي تعرض لهم، ويريدون أن يعرفوا وجه الحق فيها، وكان عبد الملك بن مروان يكتب لعروة من وقت لآخر يستوضحه عن الأمر من السيرة، وعلى الرغم من ضياع كتب المغازى بين ما ضاع أو أحرق من كتبه، فإن قراءة كتب التاريخ بإمعان يمكن للباحث من خلال الإمعان فيها أن يستخلص رواية كاملة للسير والمغازى جاءت عن طريق عروة، ولعل الله يهبنا القوة، ويفسح لنا في الأجل حتى نحقق هذا، ونخرج السيرة للناس من رواية عروة بن الزبير، وهذه نماذج من السيرة أجاب بها عروة عبد الملك بن مروان لما بعث يسأله عنها:


من ذلك أن عبد الملك لما بعث إليه يسأله عن أول أمر الإسلام كتب إليه: "أما بعد، فإنه ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزله عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيتهم وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلي أرض الحبشة ـ وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثني عليه مع ذلك صلاح، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغا ورفاهية من الرزق، وأمنا ومتجرا حسنا، فأمرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم، ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم".


وفيما يلي نموذج ثان ردا على كتاب عبد الملك إلي عروة يسأله عن وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها قال: "إنك كتبت إلي في خديجة بنت خويلد تسألني متى توفيت؟ وإنها توفيت قبل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بثلاث سنين أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة متوفى خديجة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عائشة مرتين، يقال له هذه امرأتك، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة بعدما قدم المدينة، وهي يوم بنى بها ابنة تسع سنين". أما النموذج الثالث فإنه كان أيضا ردا على تساؤل عبد الملك لما كتب إلي عروة يسأله عن أمر خالد بن الوليد يوم الفتح لما فأجابه قائلا: "أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن خالد بن الوليد؛ هل أغار يوم الفتح؟ وبأمر من أغار؟ وإنه كان من شأن خالد يوم الفتح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ركب النبي بطن مر عامدا إلي مكة، وقد كانت قريش بعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام يتلقيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم حين بعثوهما لا يدرون أين يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم، إليهم أو إلي الطائف؟ وذاك أيام الفتح، واستتبع أبا سفيان، وحكيم بن حزام بديل بن ورقاء، وأحب أن يصحبهما ولم يكن غير أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل، وقالوا لهم حين بعثوهم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا نؤتين من ورائكم، فإنا لا ندري من يريد محمد؛ إيانا يريد، أو هوازن يريد، أو ثقيفا؟
وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش صلح الحديبية، وعهد ومدة، فكانت بنو بكر في ذلك الصلح مع قريش، فاقتتلت طائفة من بني كعب وطائفة من بني بكر، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش في ذلك الصلح الذي اصطلحوا عليه: "لا إغلال ولا إسلال" فأعانت قريش بني بكر بالسلاح، فاتهمت بنو كعب قريشا، فمنها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، وفي غزوته تلك لقي أبا سفيان وحكيما وبديلا بمر الظهران فبايعوه، فلما بايعوه بعثهم بين يديه إلي قريش يدعوهم إلي الإسلام، فأخبرت أنه قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وهي بأعلى مكة، ومن دخل دار حكيم ـ وهي بأسفل مكة ـ فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه وكف يده فهو آمن.


وإنه لما خرج أبو سفيان وحكيم من عند النبي صلى الله عليه وسلم عامدين إلي مكة بعث في إثرهما الزبير وأعطاه رايته، وأمره على خيل المهاجرين والأنصار، وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون، وقال للزبير: لا تبرح حيث أمرتك أن تغرز رايتي حتى آتيك، ومن ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وأمر خالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم، وأناس إنما أسلموا قبيل ذلك أن يدخلوا من أسف مكة، وبها بنو بكر قد استنفرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، فدخل عليهم خالد بن الوليد من أسفل مكة وحدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد والزبير حتى بعثهما: لا تقاتلا إلا من قاتلكما، فلما قدم خالد على بني بكر والأحابيش بأسفل مكة، قاتلهم فهزمهم الله عز وجل، لوم يكن بمكة قتال غير ذلك، غير أن كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر، وابن الأشعر ـ رجلا من بني كعب كانا في خيل الزبير، فسلكا كداء فقتلا، ولم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال، ومن ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقام الناس إليه يبايعونه، فأسلم أهل مكة، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عندهم نصف شهر، لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوازن وثقيف فنزلوا بحنين".


عبادته
كان عروة رجلا صالحا، وقد وسع عليه في الرزق والجاه إلا أن ذلك لم يصرفه عما يليق بأهل التقوى والصلاح من الإقبال على العبادة والنسك تقربا إلي الله تعالى، واستزادة من فضله، وكانت هذه سجية فيه منذ الحداثة، فقد مر بنا لما اجتمع مع نظرائه، وأخذ كل منهم يتمنى لنفسه، فكانت أمنيته نشر العلم في الدنيا والفوز بالمغفرة في الآخرة، ورجل يفكر بهذه الطريقة لابد أن يكون عامر الصلة بالله، موصول القلب بربه، مراقبا له في كل أموره.


وقد روى ابنه هشام أنه كان يسرد الصوم، وكان يصوم الدهر كله إلا يومي الفطر والنحر، وأنه مات وهو صائم، حتى في السفر كان يكون معه الرفقة فيصومون ويفطرون عملا بالرخصة، فلا يأمرهم بالصيام، ولا يفطر هو بل يستمر على صيامه عملا بقوله تعالى:


{ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }(البقرة،الآية:184) .


وكان دائم التلاوة لكتاب الله تعالى والعكوف عليه، فكان يقرأ ربع القرآن كل يوم نظرا في المصحف، فإذا جاء الليل، قام الليل ثانيا للقرآن وقد حدثوا أنه لم يخلف هذه العادة مطلقا إلا ليلة قطعت رجله، ثم استأنف التلاوة في اليوم التالي كعادته التي جرى عليها طوال حياته.


صفاته وأخلاقه


كان عروة رجلا يحب معالي الأمور، ويأخذ نفسه بها، ويربي عليها أبناءه، وقد مر بنا وصيته لأولاده في طلب العلم، وكان يقول: "إني لأعشق الشرف كما أعشق الجمال"، وكان يقول لأولاده: "يا بني لا يهدين أحدكم إلي ربه عز وجل ما يستحي أن يهديه إلي كريمه، فإن الله عز وجل أكرم الكرماء، وأحق من اختير إليه"، ويقول لهم: "يا بني تعلموا، فإنكم إن تكونوا صغراء قوم عسى أن تكونوا كبراءهم، واسوأتاه، ماذا أقبح من شيخ جاهل". وكان يرى أن تصرفات الشخص تعبير حقيقي عن طبيعته الكامنة، وسلوكه، وأن الإنسان الذي يبدر منه العمل الطيب يدل ذلك على طبيعة خيرة في حناياه، تدعوه إلي أن يفعل مثلها، وأن الذي يفعل السوء يومئ فعله إلي ما تنطوي عليه نفسه من رغبة في عمل الشر؛ حتى ولو ظن الناس به غير ذلك؛ ولذلك كان من نصيحته لأولاده قوله: "إذا رأيتم خلة شر رائعة من رجل فاحذروه، وإن كان عند الناس رجل صدق، فإن لها عنده أخوات، وإذا رأيتم خلة خير رائعة من رجل فلا تقطعوا عنه إياسكم، وإن كان عند الناس رجل سوء، فإن لها عنده أخوات".


وقد كرر هذا المعنى في صورة أخرى حيث قال: "إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات؛ فإن الحسنة تدل على أخواتها، وإن السيئة تدل على أخواتها".


وكان عروة رجلا شديد الحياء، يخشى أن يحرج أصدقاءه، وأقاربه؛ حتى ولو أدى ذلك إلي تنازله عن حقوق خاصة به، وفي مسلكه مع طلحة بن عبيد الله أوضح دليل على ذلك، فقد كان طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر يمت إليه بصلة القرابة من جهة أمه، وكانت أم طلحة عائشة بنت طلحة وكانت قد تزوجت مصعب بن الزبير، وكان عروة قد أودع عند طلحة مالا من مال بني مصعب بن الزبير لما خرج إلي الشام، وبلغ عروة أن طلحة يبني ويبتاع الرقيق والإبل والغنم، وربما صاحب ذلك إشاعة تقول: إن طلحة قد بدد المال الذي أودعه عنده عروة، فلما قدم عروة، وسمع ما يتناقله الناس كره أن يكشفه، وأن يسأله عن المال، فسكت عنه، وجعل يلقاه، ويستحي أن يتحدث معه فيه، فلما طال به العهد، ولم يسأل طلحة الأموال، قال له طلحة: ألا تريد مالك؟ قال: بلى، وكأنما كان ينتظر من طلحة ذلك، ليكفي نفسه مؤونة الحرج.


قال له طلحة: فأرسل فخذه، سأله عروة: متى؟


فأجاب: متى شئت، فبعث معه عروة رسولا؛ فإذا هو قد هدم عليه بيتا، واستخرج المال، وأتى به إلي عروة. وسر عروة أن يرى طلحة قد حفظ الأمانة، وكذب إشاعات الناس، وأدرك أن ذلك لدينه المتين، وحسبه العالي، فتمثل قائلا:


فما استخبأت في جل خبيئا ذوو الأحساب اكرم مأثرات الدين أو حسب عتيق وأصبر عند نائبة الحقوق
سخاؤه
كان عروة رجلا سخيا، يرى أن الله قد أفاء عليه العلم والشرف والجاه والمال، فكان يحب أن يشركه الناس فيما أفاء الله عليه، وقد رأينا رغبته في نشر العلم، أما سخاؤه بالمال فكان يحب أن يجعله للعامة من الناس، وكان له حائط (حديقة) بها نخل، فإذا حان وقت جناها، وجاء ميعاد الرطب تلم فيها جدارها ثلما؛ ليعبر الناس منه فيأخذوا ما يشتهون من رطبها، يأكلون ويحملون، وكان ينزل حوله ناس من البدو يدخلون فيأكلون ويحملون أيضا، ويظل الجدار مثلوما كذلك طيلة مدة الرطب، فإذا مضى أوانه أصلح الجدار ورممه، وكان كلما دخل حديقته تلك ردد قوله تعالى:


{ وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } (الكهف،الآية:39) .


وقد عبر عن مسلكه هذا في الحياة خير تعبير بما أثر عنه من قوله: "مكتوب في الحكمة: لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا، تكن أحب إلي الناس ممن يعطيهم العطاء".


وقد كان عروة بكلمته هذه يعبر أصدق تعبير عن الآداب والأخلاق التي أوصى بها الإسلام في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واقرأ إن شئت قوله تعالى:


{ وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } (الحج ،الآية:24) .


وقوله:


{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران ،الآية :159) .


وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم"


صبره وتحمله


لولا أن كتب التاريخ والأخبار أجمعت على ما روى عن صبر عروة وتحمله لما وقعت الأكلة في رجله، واحتيج إلي قطعها لما استطاع المرء أن يصدق ما روى، ولقد كانت قصة عجبا حقا تقول: إن عروة في إحدى سفراته إلي دمشق، بعد أن دان الأمر لبني أمية، وزال ملك أخيه عبد الملك بمكة، أصابت الأكلة رجله في الطريق، وأخذت الإصابة تزداد يوما بعد يوم حتى وصل إلي دمشق، وعرف بالأمر الوليد بن عبد الملك، فاستدعى له الأطباء، فأجمع رأيهم على قطعها خوفا من سريان الداء في الساق كلها، ثم الجسد بأكمله، وأخذ الوليد يقنعه بقطعها حماية لبقية جسمه من التلف، فلما استجاب لرأي الأطباء، وأخذوا يعدون العدة لنشرها، عرضوا عليه أن يسقوه مخدرا لئلا يحس بألم القطع فرفض ذلك قائلا: ما ظننت أن أحدا يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله، حتى لا يعرف ربه عز وجل، ولكن إذا كنتم ولابد فاعلين، فافعلوا ذلك، وأنا في الصلاة، فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به، فنشروا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي احتياطا أنه لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلي، وكان صائما، فما تضرر ولا اختلج، وهناك رواية تقول: إنهم قالوا نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألما، فقال: لا استعين بحرام الله على ما أرجو من عافيته، قالوا: فنسقيك المرقد، قال: ما أحب أن أسلب عضو من أعضائي، وأنا لا أجد ألم ذلك، فاحتسبه، ودخل عليه قوم فأنكرهم، فسأل: من هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب معه الصبر.


قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، فقطعت وهو يهلل ويكبر، ثم أغلي الزيت في مغارف الحديد، فحسم به الجرح مكان القطع حتى لا ينزف، فغشي عليه من شدة، الألم، ثم أفاق والعرق يتصبب على وجهه.


ولما رأى القدم بأيديهم، دعا بها، فقلبها في يده، ثم قال: أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلي حرام، وكأنما كان هذا السفر يحمل له كثيرا من الآلام والأحزان، ففي نفس الليلة التي قطعت فيها رجله كان له ابن اسمه محمد قد صحبه معه في سفره، وكان فيما يقال أحب بنيه إليه، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات، فدخلوا عليه يعزونه فيما أصابه، وكان الوليد بن عبد الملك أول المعزين له، فكان جوابه تسليما مطلقا لأمر الله، ورضى بقضائه وقدره، وكان مما قال تلك الكلمات التي أثرت عنه، وهي: "اللهم لك الحمد، كانوا سبعة فأخذت واحدا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فلئن كنت قد أخذت فلقد أعطى، ولئن كنت قد ابتليت فقد عافيت".


ولما قضى حاجته من دمشق رجع إلي المدينة، ولم يجر على لسانه شكوى، أو ألم مما حل به في نفسه وفي ولده في ذلك السفر، حتى وصل إلي وادي القرى في طريق عودته إلي المدينة، وهو المكان الذي ظهر فيه الداء في رجله سمعه يقول: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا).


ولما وصل إلي المدينة أتاه أهلها يسلمون عليه ويعزونه في رجله وولده، وكان مما عزاه به عيسى بن طلحة بن عبيد الله قوله: "والله ما كنا نعدك للصراع، ولقد أبقى الله لنا أكثرك، أبقى لنا سمعك، وبصرك، ولسانك وعقلك ويديك وإحدى رجليك" ..


فقال له عروة: "والله يا عيسى، ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به وقد جاءت هذه التعزية في صيغة أخرى في الطبعة التي حققها إحسان عباس هي: "والله ما بك حاجة إلي المشي، ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك، وابن من أبنائك إلي الجنة، والكل تبع للبعض، إن شاء الله تعالى، وقد أبقى الله لا منك ما كنا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء من علمك ورأيك. ونفعك الله وإيانا به، والله ولي ثوابك والضمين بحسابك ..."


وترامى إلي مسمع عروة أن بعض الناس يقول: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه فلما سمع ذلك أنشد قول معن بن أوس:


لعمرك ما أهويت كفى لريبة ولا قادني سمعي ولا بصري لها ولست بماش ما حييت لمنكر ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة وأعلم أني لم تصبني مصيبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي من الأمر لا يمشي إلي مثله مثلي وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي


ويبدو أن نزول هذه الأحداث بعروة وهو في دمشق في ضيافة الوليد قد أثر في نفس الوليد، وتأثر أيما أثر على ما نزل بصديق أبيه، وكان عروة لما أصيبت رجله شيخا في سن الخامسة والستين، ويقال إنه عاش بعد ذلك ثماني سنوات، وحدث أن قدم في نفس التي أصيب فيها عروة وابنه قومن من بني عبس وفدا على الوليد، وكان فيهم رجل ضرير فسأله الوليد عن عينيه.


فقال: يا أمير المؤمنين، بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال غير بعير وصبي مولود، وكان البعير صعبا، فند، فوضعت الصبي، واتبعت البعير، فلم أجاوز إلا قليلا حتى سمعت صيحة ابني، ورأسه في فم الذئب، وهو يأكله، فلحقت البعير لأحبسه، فنفحني برجله على وجهي، فحطمه وذهب بعيني، فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر.


فقال الوليد لما سمع قصته: "انطلقوا به إلي عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء.."


وكان من عادة عروة أن يجلس كل ليلة بعد صلاة العشاء الآخرة، وهو وعلي زين العابدين في آخر المسجد يتحدثان وجرى بينهما الحديث ذات ليلة عما يقع من بني أمية من الجور، والمقام معهم، وهما لا يستطيعان تغيير ذلك، ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهما لسكوتهما على هذا الجور، فقال عروة لعلي: يا علي، إن من اعتزل أهل الجور، والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فإن كان منهم على ميل، ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم. وقد سكن عروة بالعقيق وبني قصرا هناك، فعوتب في ذلك وقيل له أتهجر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني رأيت مساجدهم لاهية وأسواقهم لاغية والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان فيما هناك عما هم فيه عافية" وواضح من قوله، أنه يريد أن يعتزل الناس.


روايته للشعر


بعث معاوية إلي عروة مقدمه المدينة فاستنشده الشعر ثم قال له أتروي قول جدتك صفية بنت عبد المطلب: خالجت آباد الدهور عليهم فلو كان زبر مشركا لعذرته وأسماء لم تشعر بذلك أيم ولكنه ـ قد يزعم الناس ـ مسلم
قال نعم وأروي قولها:


ألا أبلغ بني عمي رسولا وسائل في جموع بني علي بأنا لا نقر الضيم فينا متى نقرع بمروتكم نسؤكم ويظعن أهل مكة وهي سكن مجازيل العطاء إذا وهبنا ونحن الغافرون إذا قدرنا وأنا والسوابح يوم جمع ففيم الكيد فينا والإمار إذا كثر التناشد والفخار ونحن لمن توسمنا نضار وتظعن من أماثلكم ديار هم الأخيار إن ذكر الخيار وأيسار إذا حب الخيار وفينا عند عدوتنا انتصار بأيديها وقد سطع الغبار


وإنما قالت ذلك في قتل أبي أزيهر تعير أبا سفيان بن حرب، وكان صهره قتله هشام بن الوليد، قال معاوية حسبك يا ابن أخي هذه بتلك وقد روى لعروة بعض أبيات من الشعر ومما قاله لما بني قصر العقيق:


بنيناه فأحسنا بناه تراهم ينظرون إليه شزرا فساء الكاشحين وكان غيظا يراه كل مختلف وسار بحمد الله خير العقيق يلوح لهم على وضح الطريق لأعدائي وسر به صديقي ومعتمر إلي البيت العتيق


وبئر عروة مشهور بالعقيق طيبة الماء، وفيها يقول أحد الشعراء:


لو يعلم الشيخ غدوى بالسحر في فتية مثل الدنانير غرر بين أبي بكر وزيد وعمر قد شمخ المجد هناك وأزمخر يسقون من جاء ولا يؤذي بشر قصدا إلي البئر التي كان خصر وقاهم الله النفاق والضجر ثم الحواري لهم جد أغر


فهم عليها بالعشي والبكر لزاد في الشكر وإن كان شكر


عروة وخالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد


كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والي حمص، منذ أيام عثمان، وكان قد عظم شأنه بالشام، ومال إليها أهلها، لما كان عندهم من آثار أبيه خالد، ولبأسه وما أوقعه بالروم، وما أظهره من شجاعة وجلد، فأحبه الناس، وخشي معاوية على نفسه منه، وساورته من أن يرى رجلا مثل عبد الرحمن، وقد تعلقت به القلوب بهذه الصورة، فطلب من ابن أثال أن يعمل الحيلة في قتله والتخلص منه، وضمن له في نظير ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص.


وبيت ابن أثال الأمر في نفسه، وأخذ يتحين الفرصة المواتية ليحقق لمعاوية ما أراده، وكان ابن أثال رجلا غزواته المظفرة ببلاد الروم، وكان المفروض أن تنصب له حفلات التكريم والإجلال لخدماته التي أداها للدولة، ولكن الخوف على السلطان أفسد كل الأمور، وجعل النجاح سببا للخوف، ومبررا للموت بدلا من الحياة، ودس ابن أثال شربة مسمومة إلي عبد الرحمن مع بعض مماليكه، فشربها، ومات بحمص، ووفي معاوية لابن أثال بما ضمنه له، فوضع عنه خراجه وولاه خراج حمص.


ولم يعد ما حدث سرا، فقد تحدث به الناس، وتناقلته الأخبار، في جنبات الدولة المختلفة، وأصبح حديث المجالس، وحدث أن جلس خالد بن عبد الرحمن إلي عروة بن الزبير، ويبدو أنه لم يعرفه، فسأله: من أنت؟
فأجاب: أنا خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.


فقال عروة: ما فعل ابن أثال؟


وكأنما أحس خالد أن عروة يعرض به، وبعدم انتصاره لدم أبيه، فقام من عنده، وخرج من فوره متوجها إلي حمص، وهناك أخذ يترصد لابن أثال لتمكنه منه الفرصة، حتى رآه يوما راكبا، فاعترضه خالد، فضربه بسيفه فقتله، ولما رجع الأمر إلي معاوية حبسه أياما ثم أغرمه دية ابن أثال، ورجع خالد إلي المدينة بعدما أخذ بثأر أبيه، ثم أتى عروة، فسلم عليه، فقال له عروة: ما فعل ابن أثال؟


فأجاب عبد الرحمن: قد كفيتك ابن أثال، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة ولم يجب، وكأنما يعرض بأولاد الزبير أن لم يأخذوا بثأر أبيهم، حينما قتله ابن جرموز.


وكان خالد حين قتل ابن أثال لم يتوار، وإنما أنشد:


أنا ابن سيف الله فأعرفوني ولم يبق إلا حسبي وديني


وصار صل به يميني


وري صاحب نسب قريش قال: لما قتل الزبير يوم الجمل كان موقف بنيه في غاية من الحرج والضيق، فلم يدعهم الناس وفقد أبيهم، بل أخذوا يلقونهم بما يكرهون، وقد ضايق ذلك أشد الضيق بني الزبير، وفي ذلك يقول عروة: لما قتل الزبير يوم الجمل جعل الناس يلقوننا بما نكره، ونسمع منهم الأذى، فقلت لأخي المنذر: انطلق بنا إلي حكيم بن حزام حتى نسأله عن مثالب قريش، فنلقي من يشتمنا بما نعرف.


فانطلقنا حتى دخلنا عليه داره، فذكرنا ذلك له، فقال لغلام له: أغلق باب الدار، ثم قام إلي سوط راحلته، فجعل يضربنا وتلوذ منه، حتى قضى بعض ما يريد. ثم قال: أعندي تلتمسان معايب قريش، ايتدعا في قومكما يكف عنكما ما تكرهان.


يقول عروة: فانتفعنا بأدبه.


في غمرة الأحداث:


نشأ عروة كما نرى من سير أحداث حياته في المدينة المنورة، وأخذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة خالته عائشة رضي الله عنها، وكان مثل العلية من أبناء قريش، وقد مر بنا حديثه مع عبد الملك وأخويه عبد الله ومصعب ابني الزبير لما جلسوا يتمنون، ولما وقعت أحداث فتنة ذي النورين عثمان رضي الله عنه كانت الأمور تمضي به وبأمثاله ممن هم في سنه هينة سهلة حتى قتل عثمان، وولي على الخلافة، وثارت الفتنة وكان لعائشة دور كبير في المطالبة بدم عثمان، وكان الزبير على رأس المعارضين لعلي هو وطلحة بحجة الأخذ بالثأر من قتلة عثمان، وفي موقعة الجمل رج عروة لصغر سنه، وهناك رواية تقول: إن عبد الله أخاه هو الذي طلب إلي أبيه أن يعيده، لما رآه أعاد أخوة له ليسوا أشقاء، ولكن الذي تواترت عليه كتب السير فيما عدا البلاذري في أنساب الأشراف أن عروة وأبا بكر بن عبد الرحمن ممن ردا يوم الجمل لصغر سنهما، إذ كان كل منهما في سن الثالثة عشرة، وهذا هو أول حدث يوشك أن يدخل عروة فيما كان يدور من الصراع بين المسلمين في ذلك الوقت، ولكنه نجا منه بفضل صغر سنه.


ولما صفا الأمر لبني أمية بعد عام الجماعة هدأت الأمور أيام معاوية، وانصرف كل إلي شأنه، وكان ذلك حقا بسبب ما أبداه الحسن رضي الله عنه من إيثار مصلحة الأمة وتجنيبها الفرقة، والحرص على حقن دماء المسلمين، إلا أن الصراع الذي هدأ، والوحدة التي عاش الناس في ظلها بدأ لابنه يزيد من بعده، فأخذت سحب الفرقة تغيم سماء المسلمين، وبدأت النزعات الكامنة تظهر، وجرت الأحداث دامية محزنة انتهت بمقتل الحسين رضي الله عنه في العراق، بعدما آل الأمر إلي يزيد، ودعا ابن الزبير إلي نفسه في مكة، وانتشر سلطانه مدة على العراق ومصر، وبدا على الساحة السياسية ثلاث جماعات تتصارع مما مزق وحدة المسلمين كل ممزق: الزبيريون في الحجاز، والأمويون في الشام، والمغامرون الذين تستروا تحت راية الأخذ بثأر الحسين رضي الله عنه في العراق بزعامة المختار بن أبي عبيد الثقفي، يضاف إلي هؤلاء جمعيا الخوارج الذين لا يرضون عن واحدة من هذه الجماعات، ويرون حربهم جميعا وخروجهم عن الإسلام، وبدأت هذه الجماعات المتحاربة تأكل بعضها واحدة تلو الأخرى، وانفرط عقد المسلمين، وسالت الدماء بينهم حتى لم يعد هناك من قوى تواجه بعضها إلا الزبيريين في الحجاز والعراق بعد مقتل المختار، والأمويين أو بني مروان من بعدهم في الشام، ولم يلبث بنو مروان أن انتزعوا العراق من الزبيريين، وقتل مصعب ابن الزبير، وتحصن أخوه عبد الله بمكة، في هذا الجو المضطرب عاش عروة، ولم يكن يستطيع أن يكون بمنأى عنه، حتى لو أراد؛ لأن أخاه عبد الله كان يدعو لنفسه، وكان عروة معه بمكة لما اشتد به الحصار، وأخذ عدد ممن حوله يزينون له أن يستسلم؛ ولكنه أبى، وقد جرى هذا الحديث مرة وعروة حاضر، وكان عروة يرى أن يتنازل أخوه حقنا للدماء، ويرى فيما فعل الحسن مع معاوية قدوة له، وقد أورد صاحب العقد وصفا لهذا المجلس الأخير لابن الزبير، وما جرى فيه من حوار فقال لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها ابن الزبير، جمع من كان معه من القرشيين، فقال: ما ترون؟


فقال رجل من بني مخزوم من آل بني ربيعة: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقيلا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين، إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا وإما أن تأذن لنا فنخرج. فقال ابن الزبير: لقد كنت عاهدت الله أن لا يبايعني أحد فأقيله بيعته إلا ابن صفوان. فقال له ابن صفوان: أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت بموتك، وإنها لتأخذني الحفيظة أن أسلمك في مثل هذه الحالة.


قال له رجل آخر: اكتب إلي عبد الملك بن مروان.


فقال له: كيف اكتب: من عبد الله أمير المؤمنين إلي عبد الملك بن مروان، فوالله لا يقبل هذا أبدا، أم اكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من ذلك.


فقال عروة بن الزبير وهو جالس معه على السرير ـ: يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أسوة. قال: من هو؟


قال:حسن بن علي خلع نفسه، وبايع معاوية.


فرفع ابن الزبير رجله فضرب بها عروة حتى ألقاه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك، والله لو قبلت ما يقولون ما عشت إلا قليلا، وقد أخذت الدنية، وإن ضربة بسيف في عز خير من لطمة من ذل".


ويبدو أن عروة كان قد شارك في القتال، فقد روي له البلاذري بيتا من الشعر أنشده وهو يقاتل:


أبي الحواريون إلا مجدا من يقتل اليوم يلاق رشدا


الرحلة إلي عبد الملك


لم يكد الحجاج يدخل مكة بعد مقتل عبد الله بن الزبير حتى امتطى عروة ناقة نجيبة، ومعه مال خرج به إلي المدينة، فأودعه هناك، ثم واصل السير إلي عبد الملك بدمشق حتى وصلها قبل رسل الحجاج، فقال للحاجب: استأذن لي على أمير المؤمنين، فسأله: من أنت؟


فقال: قل له أبو عبد الله، ولما أخبر الحاجب عبد الملك قائلا: إن رجلا يستأذن، ويقول: قل له أبو عبد الله. قال: ذاك عروة بن الزبير، ائذن له.


فلما دخل سلم عليه بالخلافة، وعانقه ورحب به وأجلسه على السرير. فقال عروة:


نمت بأرحام إليك قريبة ولا قرب للأرحام ما لم تقرب


ثم جرى الحديث بينهما حتى وصل إلي عبد الله بن الزبير، فقال عروة: بان، فسأل عبد الملك: وما فعل؟


أجاب عروة: قتل رحمه الله.


فخر عبد الملك ساجدا.


قال عروة: فإن الحجاج صلبه، فهب جثته لأمه.


قال: نعم. وكتب إلي الحجاج يعظم ما بلغه من صلبه، وكتب إليه بشأن عروة قائلا: إن عروة كان مع أخيه، فلما قتل عدو الله أخذ مالا من مال الله وهرب.


فكتب إليه عبد الملك: إنه لم يهرب، ولكنه أتاني مبايعا، وقد أمنته وحللته مما كان، وهو قادم عليك، فإياك وعروة. ويبدو أن عروة كان قد عاد إلي الشام بعد دفن أخيه، إذ كانت الصلة بينه وبين الملك قديمة أيام أن كانا يجلسان معا في مسجد المدينة، وعز على الحجاج أن يفلت عروة بالأموال، فعاود الكتابة إلي عبد الملك بشأنه حتى هم عبد الملك أن يبعث به إلي الحجاج، فقال عروة لما أحس ذلك من عبد الملك: ليس الذليل من قتلتموه، ولكن من ملكتموه، وقال: ليس بملوم من صبر حتى مات كريما، ولكن الملوم من خاف من الموت، وسمع مثل هذا الكلام. فقال عبد الملك: لن تسمع أبا عبد الله شيئا تكرهه. ويبدو أن عروة أقام بعض الوقت عند عبد الملك، وأظهر عبد الملك من إكرامه والحفاوة به ما يليق بعروة، وربما جدد ذلك لهما صحبتهما في مسجد المدينة، لما كانا في أول الشباب جادين في تحصيل العلم والنسك، وكان عبد الملك معجبا بعلم عروة، وقد مر بنا إشارته على الزهري أن يلزمه، فدخل هو وعروة يوما بستانا فأعجب عروة جماله ونظامه وشجره وثماره، فقال: ما أحسن هذا البستان. فقال عبد الملك: أنت والله احسن منه، إن هذا يؤتي أكله كل عام وأنت تؤتي أكلك كل يوم.


هل ولى عروة اليمن لعبد الملك


ذكر صاحب العقد الفريد أن عروة كان عاملا على اليمن لعبد الملك بن مروان، وكانت العلاقة بين عروة والحجاج علاقة تربص وتوثب، والحجاج رجل الدولة، ويدها اليمنى، ومسكت منافسيها في العراق والحجاز، وما كان له أن يستريح، وهو يرى أخ عدو بني مروان اللدود يتولى عملا لهم على اليمن، ولم ينس بعد الأموال التي أخذها واحتمى منه بعد الملك، واتصل بعروة أن الحجاج عازم على مطالبته بالأموال التي تحت يده، وعزله عن عمله، ففر إلي عبد الملك، وعاذ به تخوفا من الحجاج. واستدفاعا لضرره وشره.


فلما بلغ الحجاج لجوء عروة إلي عبد الملك غاظه ذلك وكتب إليه: أما بعد، فإن لواذ المعترضين بك، وحلول الهائجين إلي المكث بساحتك، واستلانتهم دمث أخلاقك، وسعة عفوك كالعارض المبرق لأعدائه، لا يعدم له شائما، رجاء استمالة عفوك، وإذا أدنى الناس بالصفح عن الجرائم كان ذلك تمرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل ضال، والناس عبيد العصى، هم على الشدة أشد استباقا منهم على اللين، ولنا قبل عروة بن الزبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قطع لطمع غيره فليبعث به أمير المؤمنين إن رأى ذلك والسلام.


يقول صاحب العقد الفريد: فلما قرأ عبد الملك الكتاب بعث إلي عروة، ثم قال: إن كتاب الحجاج قد ورد فيك، وقد أبى إلا إشخاصك إليه، ثم قال لرسول الحجاج: شأنك به. فالتفت إليه عروة مقبلا عليه، وقال: "أما والله ما ذل وخزى من مات، ولكن ذل وخزى من ملكتموه، والله لئن كان الملك بجواز الأمر، ونفاذ النهي، إن الحجاج لسلطان عليك، ينفذ أموره دون أمورك، إنك لتريد الأمر يزينك عاجله، ويبقى لك أكرومة آجله، فيجذبك عنه، ويلقاه دونك، ليتولى من ذلك الحكم فيه، فيحظى بشرف عفو إن كان، أو بجرم عقوبة إن كنت وما حاربك من حاربك إلا على أمر هذا بعضه". فنظر عبد الملك في كتاب الحجاج مرة أخرى بعد سماع مقالة عروة، ورفع بصره إلي عروة تارة، ثم دعا بدواة وقرطاس، فكتب إليه: "أما بعد، فإن أمير المؤمنين رآك مع ثقته في نصيحتك خابطا في السياسة خبط عشواء الليل، فإن رأيك الذي يسول لك أن الناس عبيد العصى هو الذي أخرج رجالات العرب إلي الوثوب عليك، وإذا أحرجت العامة بعنف السياسة، كانوا أوشك وثوبا عليك عند الفرصة، ثم لا يلتفتون إلي ضلال الداعي وهداه إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك. وقد وليت العراق قبلك ساسة وهم يومئذ أحمى أنوفا وأقرب من عمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلح منك عليهم، وللشدة واللين أهلون، والإفراط في العفو افضل من الإفراط في العقوبة والسلام.
الأيام الأخيرة


ولم تكد تنجلي هذه الشدة، ويستريح الناس جميعا من الحجاج، حتى يعود عروة إلي المدينة، ويستقر بها، وينصرف للعلم والفقه والمغازي والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلي جانب البذل من جاهه وماله ما ينفع الناس، وهو الذي حفر بئر عروة المعروفة حتى اليوم، وكان في منهجه في نشر العلم متبعا للأثر، مقتفيا له، حتى قال ابنه هشام عنه: ما قال أبي في شيء برأيه قط، وكان قد عكف على بناء قصر له بالعقيق، فلما انتهى منه وحفر بئره، دعا جماعة فأطعمهم، فلما عاتبوه على ترك المدينة، قال تلك الكلمة التي رويت عنه، والتي تشعر بأن الناس انصرفوا إلي ما لا ينفعهم، فوجد السلامة في البعد عنهم، وقد يعبر عن ذلك قوله: "لم يعد في المدينة إلا حاسد على نعمة أو شامت بمصيبة.

وتوفى عروة رحمه الله في أرضه عام 94 هـ على الصحيح ودفن بها، وهي السنة التي يقال لها سنة الفقهاء لكثرة من توفى منهم فيها، فرحمه الله ورضى عنه

بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً لحرب الروم وكان من بينهم شاب من الصحابة هو عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي - رضي الله عنه.
وطال القتال بين المسلمين والروم وعجب قيصر من ثبات المؤمنين وجرأتهم على الموت.. فأمر بأن يحضر بين يديه أسير من المسلمين..
فجاءوا بعبدالله بن حذافة يجرونه والأغلال في يديه وفي قدميه فتحدث معه قيصر فأعجب بذكائه وفطنته.
فقال له: تَنَصّر وأنا أطلقك من الأسر! (يدعوه إلى ترك الإسلام واعتناق النصرانية).
قال عبد الله: لا،
قال له: تنصّر وأعطيك نصف ملكي!.
فقال: لا،
فقال قيصر: تنصّر وأعطيك نصف ملكي وأشركك في الحكم معي.
فقال عبد الله - رضي الله عنه -: لا، والله لو أعطيتني ملكك وملك آباءك وملك العرب والعجم على أن أرجع عن ديني طرفة عين مافعلت.
فغضب قيصر، وقال: إذاً أقتلك!. فقال: اقتلني.
فأمر به فسُحب وعُلّق على خشبة وأمر الرماة أن يرموا السهام حوله..وقيصر يعرض عليه النصرانية وهو يأبى وينتظر الموت.
فلما رأى قيصر إصراره أمر بأن يمضوا به إلى الحبس وأن يمنعوا عنه الطعام والشراب.. فمنعوهما عنه حتى كاد أن يموت من الظمأ ومن الجوع فأحضروا له خمرا ولحم خنزير..فلما رآهما عبد الله، قال: والله إني لأعلم أني لمضطر وإن ذلك يحل لي في ديني، ولكن لا أريد أن يشمت بي الكفار ، فلم يقرب الطعام
فأُخبر قيصر بذلك، فأمر له بطعام حسن، ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة.. فأدخلت عليه أجمل النساء، فلم يلتفت إليها..
فلما رأت ذلك خرجت وهي غاضبة، وقالت: لقد أدخلتموني على رجل لا أدري أهو بشر أو حجر.. وهو والله لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر!!..
فلما يأس منه قيصر أمر بقدر من نحاس ثم أغلى الزيت وأوقف عبدالله أمام القدر وأحضر أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود وألقوه في الزيت المغلي فصرخ صرخه ومات وطفت عظامه تتقلب فوق الزيت وعبدالله ينظر إلى العظام فالتفت إليه قيصر وعرض عليه النصرانية فأبى..
فاشتد غضب قيصر وأمر به أن يطرح في القدر فلما جروه وشعر بحرارة النار بكى!! ودمعت عيناه!! ففرح قيصر فقال له: تتنصر وأعطيك.. وأمنحك..
قال: لا ما الذي أبكاك!؟
فقال: أبكي والله لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر.. ولقد وددت لو كان لي بعدد شعر رأسي نفوس كلها تموت في سبيل الله مثل هذه الموتة..
فقال له قيصر بعد أن يأس منه: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي سبيلك..
فقال عبدالله: وتخلي عن جميع أسارى المسلمين..
فقال: أجل..
فقبّل عبد الله رأسه ثم أطلق مع باقي الأسرى..
فقدم بهم على عمر رضي الله عنه، فأُخبر عمر بذلك، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حُذافة، وأنا أبدأ، فقام عمر فقبّل رأسه.
رضي الله عنهم ،ما أجمل سيرتهم وما أعظم صبرهم وما أشد تضحيتهم في سبيل الله.


الكثير منكم يعرف فيلم 300 الاجنبي ومع ذلك فهي قصة وهمية ليست حقيقية. لكن من منكم يعرف قصة حقيقية بطلها رجل مسلم ومعه 400 مسلم ؟ القصة كانت في معركة اليرموك حيث كانت المواجهة بين المسلمين والروم البيزنطيين فيما اعتبره بعض المؤرخين من اهم المعارك في تاريخ العالم لأنها جسدت أول انتصارات المسلمين في خارج الجزيرة العربية مما هيأ لهم إنشاء امبراطوريتهم العظيمة الجدير بالذكر هنا ان المعركة استمرت ستة أيام كاملة وكان تعداد جيش المسلمين 36 ألف في مقابل 250 ألف من الروم . طبعاً بذكر الفرق بين تعداد وتجهيز الجيشين يصبح واضحاً كيف كانت المعركة صعبة وشديدة على جيش المسلمين , وفي اليوم الرابع للمعركة حقق الجيش البيزنطي اختراقاً حاسماً في صفوف جيش المسلمين حيث تعرض الكثير من جند المسلمين إلى رمي عنيف بالنبال أدى إلى فقدان الكثير لبصرهم نتيجة إصابتهم في عيونهم وسمي ذلك اليوم بيوم خسارة العيون وتراجع الجيش المسلم تراجعاً كبيراً ولاحت الهزيمة في الأفق. وهنا تبدأ قصتنا عن ال 400 مسلم : عندما أحس عكرمة رضي الله عنه بقرب الهزيمة نزل من على جواده وكسر غمد سيفه واوغل في صفوف الروم فبادر إليه خالد بن الوليد قائد الجيش المسلم وقال لا تفعل يا عكرمة فإن قتلك سيكون شديداً على المسلمين . فقال عكرمة إليك عني يا خالد فلقد كان لك مع رسول الله صل الله عليه وسلم سابقة أما أنا وأبي فقد كنا أشد الناس على رسول الله فدعني اكفر عما سلف مني ثم قال لقد قاتلت رسول الله فى مواطن كثيرة وأفر من الروم اليوم ؟ إن هذا لن يكون أبداً . ثم نادى فى المقاتلين من يبايع على الموت ؟ فلبى النداء 400 من الرجال فدخل عكرمة بفرقته إلى داخل صفوف الروم وقاتلوا قتالاً عنيفاً ومن هول الموقف نجح بفرقته في صد زحف الروم وقتل الآلاف من جنود الرومان وقلب الهزيمة الموشكة بالمسلمين إلى نصر , لكنه وفرقته أستشهدوا جميعاً في هذه العملية. هذا هو الفرق بين قصصهم وقصتنا فقصصهم من وحي خيال لا أصل لها أما نحن فصصنا حقيقية صاغها أبطال شجعان في سبيل الله .. لله در هؤلاء الرجال صحابة رسول الله صل الله عليه وسلم



زيد بن عمرو بن نفيل، أشهر الموحدين قبل الإسلام، أصحاب العقول الناضجة، الذين لم يستسيغوا تلك الحجارة الموضوعة فوق الكعبة، ولا ما ينسج حولها من أساطير وخرافات، وأحد الذين عبروا الروابي والهضاب والصحاري، سير حثيث بحثًا عن الحق، فلم تستمله اليهودية ولا النصرانية، فعاد إلى مكة يعبد الله على دين إبراهيم عليه السلام حتى مات.
زيد بن عمرو بن نفيل
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي العدوي، والد سعيد بن زيد رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يجتمع هو وعمر في نفيل، وكان حنيفيًا على دين الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وكان لا يأكل ما ذبح على الأنصاب.
زيد بن عمرو بن نفيل .. الباحث عن الدين
في مكة كان زيد بن عمرو بن نفيل يحدق في الأصنام يتأملها وهي منصوبة فوق بيت الله، فلا تزيده الأيام إلا اقتناعًا بتفاهتها وتخلف عقول أتباعها وعابديها، إنها في نظره لا تعدو كونها حجارة صماء بكماء خرساء لا تقدم ولا تؤخر، ضاقت بها مكة وضاق زيد بها، فبحث له عن فسحة بين الفيافي والبطاح، يتنفس فيها الحرية والتوحيد، يبحث عن الحقيقة، يفتش عنها أديرة العباد وصوامع الرهبان، يسأل ويسأل ولا يكف عن السؤال.

خَرَجَ إِلَى الشام يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ.

فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي.

فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ.

قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ.

فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ.

قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.

قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ.

قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.

فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ.

قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ.

قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.

قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ.

قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ ،لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.

فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ

وهذا الحديث يبيّن مقدار الحيرة التي سادت الدنيا، وغطّت بضبابها الكثيف على الأديان الظاهرة؛ اليهود يشعرون بأنّهم مطاردون في الأرض، منبوذون من أقطارها، فعلى الداخل في دينهم أن يحمل وزرا من المقت المكتوب عليهم.

والنصارى وقع بينهم شقاق رهيب في طبيعة المسيح ووضعه، ووضع أمّه، من الإله الكبير، وقد أثار هذا الخلاف بينهم الحروب المهلكة، وقسمهم فرقا يلعن بعضها بعضا.

ومن حقّ زيد أن يدع هؤلاء وأولئك، ويرجع إلى دين إبراهيم عليه السّلام يبحث عن أصوله وفروعه.

ويعود زيد إلى مكة غريبًا كيوم غادرهم، يرمق مكة ويرمق جموعها، أحقًا كانت هذه الأرض أرض التوحيد، ما بالهم يشركون، ينظر نظرة من ملأ قلبه الأسى واللهف، رأته أسماء بنت أبي بكر على هذه الحال: (مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده، ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللَّهم لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم)

ثم يؤدي حركة غريبة كغربته تتوهج شوقًا إلى الله، وشوقًا يعبر به عما في قلبه، تقول أسماء: (ثم يسجد على راحته، وكان يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم)

لقد كان هذا الغريب إنسانًا عظيمًا في زمنه، لا يتفوق عليه في سلامة الفطرة وصفاء الفكر إلا محمد صلى الله عليه وسلم. لقد كان يرى الرجل يحمل ابنته الصغيرة على ذراعيه مسرعًا بها نحو حفرة تلتهب بالرمضاء ليدسها فيها، فينهض مسرعًا ويعترض طريقه، ويتوسل إليه ألا يفعل، فإذا أصر "أن يقتل ابنته قال له: لا تقتلها ادفعها إليَّ أكفلها، فإذا ترعرعت فخذها، وإن شئت فادفعها". ثم يأخذ تلك البريئة الضعيفة، يحملها إلى بيته يرعاها ويحنو عليها، لأنه يعرف أن الله أرحم من عباده، وأنه لم يخلقها لتدفن بعد مولدها.

إنّ زيدا واحد من المفكّرين القلائل الذين سخطوا ما عليه الجاهلية من نكر، وإنه ليشكر على تحرّيه الحقّ، ولا يغمط هو ولا غيره أقدارهم بين قومهم.

ولم تكن عودة زيد بن عمرو لمكة ليأسه مما ملأ الأرض من رموز الشرك، بل عاد لينتظر، فلقد أرشده بعض الرهبان إلى قرب مخرج نبي مرسل، في أرض الحجاز، زيد نفسه يقول: "شَامَمْتُ النَّصْرَانِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّةَ فَكَرِهْتُهُمَا، فَكُنْتُ بِالشَّامِ وَمَا وَالَاهُ حَتَّى أَتَيْتُ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَةٍ، فَوَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ اغْتِرَابِي عَنْ قَوْمِي وَكَرَاهَتِي عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَقَالَ لِي: أَرَاكَ تُرِيدُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ يَا أَخَا أَهْلِ مَكَّةَ، إِنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا يُؤْخَذُ الْيَوْمَ بِهِ، وَهُوَ دِينُ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ حَنِيفًا لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا كَانَ يُصَلِّي وَيَسْجُدُ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي بِبِلَادِكَ فَالْحَقْ بِبَلَدِكَ، فَإِنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ مِنْ قَوْمِكَ فِي بَلَدِكَ يَأْتِي بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ" .
زيد بن عمرو بن نفيل .. الموحد
قال ابن إسحاق: "وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَوَقَفَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَفَارَقَ دِينَ قَوْمِهِ، فَاعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَالْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالذَّبَائِحَ الَّتِي"تُذْبَحُ عَلَى الْأَوْثَانِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ، وَقَالَ: أَعْبُدُ رَبَّ إبْرَاهِيمَ، وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ".

وهو صاحب البيت المشهور، الذي قاله يعيب على قومه عبادة الأصنام:

أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ *** أَدِينُ إذَا تُقُسِّمَتْ الْأُمُورُ

وجاهر بعداء الأوثان، فتألب عليه جمع من قريش، فأخرجوه من مكة، فانصرف إلى حراء، فسلّط عليه عمه الخطاب شبانا لا يدعونه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سرا.

وفي الحديث أَنَّ زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، خَرَجَا يَلْتَمِسَانِ الدِّينَ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى رَاهِبٍ بِالْمَوْصِلِ، فَقَالَ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا صَاحِبَ الْبَعِيرِ؟ قَالَ: مِنْ بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: وَمَا تَلْتَمِسُ؟ قَالَ: أَلْتَمِسُ الدِّينَ، قَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْهَرَ الَّذِي تَطْلُبُ فِي أَرْضِكَ.

فَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَتَنَصَّرَ، وَأَمَّا زَيْدٌ فَعُرِضَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَلَمْ تُوَافِقْهُ فَرَجَعَ، وهو يقول:
لَبَّيْـــكَ حَقًّـــا حَقًّـــا *** تَـعَـبُّـــــــدًا وَرِقًّــــــــا
الْبِرُّ أَبْغِي لَا الْخَــالُ *** وَهَلْ مُهَجِّـرٌ كَمَنْ قَــالَ
آمَنْـــــتُ بِمَـــــــا آمَـــــنَ بِـــــهِ إِبْرَاهِيــــــــمُ

و يقول:
أَنْفِي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ *** مَهْمَا تُجَشِّمْنِي فَإِنِّي جَاشِمُ

ثم يخرُّ، فيسجد .
زيد بن عمرو بن نفيل ورسول الله
روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح (اسم موضع بالحجاز قرب مكة)، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه". وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: "الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله"، إنكارا لذلك وإعظاما له
وفاة زيد بن عمرو بن نفيل
أمة وحده زيد بن عمرو بن نفيل، هكذا عاش وهكذا سيبعث عندما تبعث الأمم (أمة وحده يوم القيامة)، توفي زيد بن عمرو بن نفيل قبل المبعث بخمس سنين، أي في عام 19 قبل الهجرة، الموافق 615 م، وقد جاء ابنه سعيد بن زيد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك، فاستغفر له، قال: "نعم، فإنه يكون يوم القيامة أمة وحده" .

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ وَيَسْجُدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُحْشَرُ ذَاكَ أُمَّةً وَحْدَهُ بَيْنِي وَبَين عِيسَى بن مَرْيَم".

وكان سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: توفى وقريش تَبْنِي الْكَعْبَةَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَلَقَدْ نَزَلَ بِهِ (الموت) وَإِنَّهُ لَيَقُولُ: أَنَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ .

في ليلة عُرسه التي كان يتمناها منذ زمن ..
وهو بجوار زوجته وحبيبته التي جمع الله بينهما أخيرًا منذ لحظات ..
نادى منادي رسول الله :"يا خيل الله اركبي، حيّ على الجهاد".
فترك الصحابي الجليل حنظلة_بن_أبي_عامر مخدعه الدافئ وزوجته الحسناء وانطلق مودعًا عروسه التي لم تدرك أنه أول وآخر لقاء لهم في الدنيا ..
انطلق ولسان حاله يقول: لبيك يارسول الله! على الجهاد في سبيل الله ..
انطلق ولم ينتظرليغتسل من الجنابة خشية أن يتخلف عن نداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم حمل سيفه وامتطى صهوة جواده واصطف في صفوف المقاتلين !
ثم دارت رحى الحرب وتقابل الجيشان وتشابك الفريقان ،فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، أشهر البطل حنظلة بن أبي عامر سيفه وشاط في رماح القوم وقاتل قتال من لا يخشى الموت، وما إن كادت المعركة أن تنتهي حتى أتته ضربة غادرة من علجٍ كافر أردته شهيدًا ..
وبينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتفقد شهداء أُحد وقف مليًا عند رأس حنظلة ، ذلك العريس الشهيد، ويرى الصحابة على وجه النبي علامات الاندهاش والتعجب الممزوج بالفرح ،فسأله الصحابة في ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم:"إني رأيت الملائكة تُغسّل حنظلة بن أبي عامر بين السماء و الأرض بماءٍ من مزن في صحافِ الفضة"..
يقول أحد الصحابة: فذهبنا إلى حنظلة لنراه = فوجدنا رأسه تقطر ماءً !
الله أكبر ، كان العُرس في الأرض والغسل في السماء..
كان العرس ليلة واحدة في الدنيا ، لكن عرسه مع الحور العين سوف يستمر في
جنة الخُلد.
هذا الصحابي ترك عُرسه ولبّى صيحة الجهاد، وأجاب نداء رسول الله ،فماذا تركنا نحن؟
هل تركنا شهواتنا المحرمة ومعاصينا تلبية لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
هل تركنا ملذاتنا ولبينا نداءات الله ورسوله ؟
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم .. إن التشبه بالرجال فلاح.

هو من اصغر قادة الاسلام عمراً تولى القيادة عندما بلغ الـ 17 عاماو ينسب إليه فتح مدينة سند (باكستان حالياً)فى عام 90 هجرياً وكاد يصل إلى فتح الهند ولكن القدر لم يعطيه ذلك ، باستدعاء الخليفة له وتعذيبه انتقاماً لأعمال عمه حجاج الثقافى ...
محمد بن القاسم الثقفي قائد أحد جيوش الفتح ومشهور بكونه فاتح بلاد السند، كان والد القاسم الثقفي واليا على البصرة ووالده هو ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي.

اسمه ونسبه
هومحمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، الثقفي.

نشأته
ولد سنة 72هـ بمدينة الطائف في أسرة معروفة، فقد كان جده محمد بن الحكم من كبار الثقفين. وفي سنة 75هـ صار الحجاج بن يوسف الثقفي والياً عامًّا على العراق والولايات الشرقية التابعة للدولة الأموية في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان. فعيَّن الحجاج عمَّه القاسم واليًّا على مدينة البصرة، فانتقل الطفل محمد بن القاسم إلى البصرة، حيث يحكمها والده، ثم بنى الحجاج مدينة واسط التي صارت معسكرًا لجنده الذين يعتمد عليهم في الحروب، وامتلأت بسكانها الجدد وقوم الحجاج، وفي هذه المدينة وغيرها من العراق نشأ وترعرع محمد بن القاسم وتدرب على الجندية، حتى أصبح من القادة المعروفين وهو لم يتجاوز بعد 17 عامًا من العمر.

فتحه لبلاد السند
حدث في سنة 88هـ أن سفينة عربية كانت قادمة من جزيرة الياقوت (بلاد سيلان) عليها نساء مسلمات، وقد مات آباؤهنَّ ولم يبق لهنَّ راعٍ هناك، فقررن السفر للإقامة في العراق، ورأى ملك سيلان في ذلك فرصة للتقرب إلى العرب فوافق على سفرهنَّ، بل حمل السفينة بهدايا إلى الحجاج والخليفة الوليد بن عبد الملك، وبينما كانت السفينة في طريقها إلى البصرة مارة بميناء الديبل ببلاد السند، خرج قراصنة من السند واستولوا عليها. وعندئذ كتب الحجاج إلى ملك السند يطلب منه الإفراج عن النساء المسلمات والسفينة، ولكنه اعتذر عن ذلك بحجة أن الذين خطفوا السفينة لصوص لا يقدر عليهم، فبعث الحجاج حملتين على الديبل، الأولى بقيادة عبيد الله بن نبهان السلمي، والثانية بقيادة بديل البجلي، ولكن الحملتين فشلتا، بل قتل القائدان على يد جنود السند. ووصلت الأخبار إلى الحجاج أن النساء المسلمات والجنود العرب مسجونين في سجن الديبل، ولا يريد ملك السند الإفراج عنهم عنادًا للعرب، وهنا كانت الأسباب تلح على الحجاج في إرسال جيش كبير لفتح تلك البلاد التي كان قراصنتها يضايقون السفن العربية التجارية المارة بين موانئ البلاد العربية وموانئ بلاد الهند.

وبالفعل قرر الحجاج فتح بلاد السند كلها، وقد وقع اختياره على محمد بن القاسم الثقفي ليقود جيش المسلمين، وجهزه بكل ما يحتاج إليه في ميدان القتال. وتحرك البطل محمد بن القاسم بجيشه المكون من ستة آلاف مقاتل من العراق إلى الشيراز في سنة 90هـ، وهناك انضم إليه ستة آلاف من الجند، وبعد ذلك اتجه نحو بلاد السند، فبدأ بفتح مدينة بعد مدينة لمدة سنتين، حتى التقى جيش المسلمين بقيادته مع الجيش السندي بقيادة الملك داهر، في معركة دامية مصيرية سنة 92هـ، وكان النصر للحق على الباطل، فقد انتصر المسلمون على المشركين، وقتل ملك السند في الميدان. واستمر محمد بن القاسم في فتوحاته لبقية أجزاء بلاد السند حتى انتهى منها سنة 96هـ، وبذلك قامت أول دولة إسلامية في بلاد السند والبنجاب أي بلاد باكستان الحالية.

من صفاته
وكان محمد بن القاسم راجح الميزان في التفكير والتدبير، وفي العدل والكرم، إذا قورن بكثير من الأبطال، وهم لا يكادون يبلغون مداه في الفروسية والبطولة، ولقد شهد له بذلك الأصدقاء والأعداء.

ولم تجتمع أخبار محمد بن القاسم المتفرقة إلى زمن قريب في كتاب، اللهم إلا على شكل مقال أو قصة، ولاسيما قصة بطل السند للأستاذ محمد عبد الغني حسن، وقد استفدت منها بأخذ بعض المعلومات التي تتعلق بحياته قبل فتح بلاد السند عند كتابة هذا المقال، حتى شاء الله أن تكون من نصيبي كتابة تاريخ كامل مفصل لبلاد السند والبنجاب في عهد العرب، في القرون الأربعة الأولى للهجرة، من صدر الإسلام إلى أواخر العصر العباسي، وفي هذا الكتاب يوجد باب مستقل يحتوي على أخبار فتوحات محمد بن القاسم في بلاد السند والبنجاب وأعماله المجيدة لخدمة الإسلام. كما أنني أوضحت الأسباب السياسية التي أدت إلى قتله نتيجة لنزوات الأحقاد، وبذلك خسر العالم الإسلامي والعربي فاتحًا عظيمًا.

نهايته المحزنة
ثم لما كان محمد بن القاسم يفكر في أن يتوجه بجيش الفتح إلى حدود بلاد الهند، وصله أمر الخليفة الجديد سليمان بن عبد الملك للتوجه إلى العراق، فرضخ الشاب المؤمن لقضاء الله، وهو يعلم أن مصيره الهلاك، لا لذنب اقترفه ولكن لسوء حظ وقع فيه، بسبب بعض تصرفات سياسية من قريبه الحجاج، واستعد الفتى الحزين للسفر، فخرجت الجموع الحاشدة لتوديعه باكية حزينة، لم يكن العرب وحدهم يبكون على مصيره، بل أهل السند من المسلمين، وحتى البرهميين والبوذيين، كانون يذرفون الدموع الغزيرة، ويرجونه أن يبقى في بلاد السند، وسوف يقفون خلفه إذا دق الخطر بابه، ولكن نفسه الأبية رفضت مخالفة أمر الخليفة.

ووصل محمد بن القاسم إلى العراق، فأرسله والي العراق صالح بن عبد الرحمن مقيدًا بالسلاسل إلى سجن مدينة واسط بسبب عداوته للحجاج، وهناك عذبه شهورًا بشتى أنواع التعذيب حتى مات البطل الفاتح - - في سنة 95 للهجرة.

إن البطل محمد بن القاسم الثقفي فاتح بلاد السند، يعتبر من أعظم الأبطال في التاريخ الإسلامي، إنه بطل بما تحمله كلمة البطولة من معانٍ، وقد أودع الله بين جنبيه نفسًا بعيدة المطامح لخدمة الإسلام. وبلاد السند والبنجاب التي فتحها البطل محمد بن القاسم هي بلاد باكستان الحاضرة من أكبر البلاد الإسلامية، وتاريخها جزء عزيز من التاريخ الإسلامي الكبير، ويعتبر محمد بن القاسم الثقفي مؤسسًا لأول دولة إسلامية في الهند، ولذلك يبقى اسمه شامخًا في سجل الفاتحين الأبطال.

هو يوسف بن تاشفين أسد المرابطين ثاني ملوك دولة المرابطين بالمغرب من أعظم ملوك المسلمين في عصره أنقذ دولة الأندلس من ضياع محقق عرف عنه الزهد و التقشف والشجاعة لا يقل فضلا عن يوسف صلاح الدين الأيوبي ، لكنه لم يأخذ حقه في الشهرة مثل صلاح الدين.
فيلم وثائقى عن قصة يوسف بن تاشفين

ولد فى المغرب عام 1006 م وتوفى عام 1106م الموافق 1 محرم 500هـ ثاني ملوك المرابطين بعد أبو بكر بن عمر. واتخذ لقب "أمير المسلمين" وهو اعظم ملك مسلم في وقته. أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي من حدود تونس حتى غانا جنوبا والاندلس شمالا وانقذ الاندلس من ضياع محقق وهو بطل معركة الزلاقة وقائدها. وحد وضم كل ملوك الطوائف في الأندلس إلى دولته بالمغرب عام 1090م بعدما استنجد به أمير أشبيلية. وشخصية يوسف بن تاشفين شخصية إسلامية متميزة استجمعت من خصائل الخير وجوامع الفضيلة ما ندر أن يوجد مثلها في شخص مثله. ذاع صيت ابن تاشفين بين العلماء والقضاة بشكل خاص وبين الناس بشكل عام فتناقلوا أخباره وصفاته، وتواتر عنهم نقل صفات الجهاد والعدل والزهد والإخلاص والتمسك بالإسلام وبدولة المسلمين الشرعية، حتى أثنى عليه معظم العلماء والفقهاء. موقعة الزلاقة: كانت موقعة الزلاّقة من أكبر المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً على الإسبان، وهُزم ملكهم الفونسو السادس هزيمة منكرة. وعلى أثر هذه الموقعة خَلَعَ ابنُ تاشفين جميعَ ملوك الطوائف المتناحرين من مناصبهم ووحّد الأندلس مع المغرب في ولاية واحدة لتصبح: أكبر ولاية إسلامية في دولة الخلافة

تأملات إيمانية

[تأملات إيمانية][fbig1]

دروس ومحاضرات

[دروس ومحاضرات][slider2]

يتم التشغيل بواسطة Blogger.